الحاكم والمحكوم... من يصنعُ من؟
تقول الحكمةُ الشعبية: قيل لفرعون: يا فرعون مَن فرعنك؟ قال: لم أجد مَن يرُدُّني ( يعني من يردعني).
وإذن فإنَّ فرعون يعرف تماماً كيف تَفرْعن! فلولا سلبيةُ الجماهير وضعفُهم واستمراؤُهم الهوان لَمَا تَفرْعن!
ونحن صغارٌ عندما كان أحدُهم يستدلُّ بهذه الحكمة في مَعرِض الحديث عن الظَّلمة، كان أبي يقصُّ على السامعين حواراً جرى ـ على رأي أبي ـ بين فرعون وهامان: "قال فرعونُ لهامان: قل لهم إنِّي ربهمُ الأعلى. فردَّ هامانُ باستهجان: أمَّا هذه يا سيدي فكبيرة! قلنا لهم: لولاك لَما كانوا! ولَمَا صاروا! ولَمَا أكلوا! ولَما شربوا! ولَما كان لهم وجود! وقد صدَّقوا، يا مولاي، كلَّ هذا! أمَّا هذه، يعني "ولا مؤاخذة يا سيدي تَخَّنتها"! هكذا كان يقولها أبي! فقال فرعون مُطمئِناً رجلَه: قُلها ولا تَهَب فأنا أعرفهم.
وقالها هامانُ فخرُّوا لفرعونَ سُجَّداً، وعندها قال فرعونُ: ألم أقل لك يا هامان إنَّني أعرفهم! "وفي الحقيقة فإنَّني لا أعرف إلى الآن مِن أين جاء أبي بهذا "السيناريو"! ولكنه على كل حال "سيناريو" جميل وعميق صاغه الناس ليُعبِّروا به عن فهمهم لحكاية فرعون، وعن تفسيرهم لواقع فراعنتهم!
ولأنَّ فرعون ـ أعني الأصلي ـ قد أُمِنَ شرُّه، فقد غدا المِشْتَم (إن جاز النَّحت) الذي يلجأ المضطهَدون إلى شتمه كلما واجهوا فرعون صغيراً يملك العساكر ـ ولكنه لا يملك عِفَّة الأصلي ـ ويملك الأجهزة القمعية، وذوي حاسةِ الشَّمِّ القوية، والسمعِ الحسَّاس "الذي يلقط الكِلْمة حتى في السكوت".
ولأنَّ هذا "الفرعون التقليد" حاضرٌ بكل هذه الإمكانات، فإنهم لا يجرؤون على الكلام فيه، ويستحضرون الأصلي الغائب ولكن على قاعدة "إياكِ أعني واسمعي يا جارة".
بعدَ هذه الحكاية نلِج إلى القضية التي أرَّقت الفلاسفة والمفكرين، بل والناس أجمعين، من يسبق من؟ ومن يصنع من؟ آلحاكم أم المحكوم؟! هل الحاكمُ هو الذي يوجد الشعبَ الفاضل؟ أم الشعبُ الواعي صاحبُ الإرادة هو الذي يفرض على الحاكم نمطَ سلوكه معهم؟ وكحكاية البيضة والدجاجة أيهما أسبق، لا زال الخلقُ يختلفون حول هذه القضية الشائكة.
وفي الوقت الذي حلَّت فيه كثيرٌ من شعوب الأرض هذه الإشكالية، وسَعَت إلى أن يكون لها شأنٌ ويدٌ في أمر من يحكمها، وانتهت إلى صياغة عقدٍ اجتماعي بينها وبين من يحكمها، واضحةٌّ فيه حدودُ الواجبات والحقوق عند كلا الطرفين.[center][b]